ما القيمة؟ وكيف يكون الثبات على القيم؟
------------------------------------------------------
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب".
يمكن أن نلاحظ من هذه العبارة بعض مفهوم القيمة عند ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو ينظر إلى القيمة على أنها معنى ذهني وتصور وجداني ينعكس بعد ذلك على سمات ومعالم الفرد الشخصية. وببسيط العبارة أنها معنى داخلي ربما لا يلحظه الكثير من الناس ويظهر لهم في التعاملات اليومية من خلال تصرفات وسلوكيات معينة سواء كانت تلك السلوكيات أخلاقية أو اجتماعية أو تربوية أو دعوية.
السؤال هنا: ما القيمة؟
المعنى المتبادر إلى الذهن للقيمة أنها كل ما غلا في النفس، أي أن القيمة بهذا المعنى يحددها مقدارُ منزلتها في قلب صاحبها، وبهذا المعنى نجد أن ما يكون ذا قيمة عالية عند شخص قد يصبح ذا قيمة متدنية عند شخص يجلس بجانبه تمامًا أو لا قيمة له عند شخص آخر.
ويتبادر إلى الذهن هنا سؤال: ما الذي يجعل لبعض الأشياء عند شخص قيمة عليا، وعند شخص آخر قيمة دنيا؟
الذي يحدد الجواب هو العلاقة بالقيمة، فعلاقة شخص بمعنى أو مفهوم معين هو الذي يحدد قيمته. وأوضح مثال على ذلك قيمة محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم في قلوب المسلمين، وهذا ما يبين لنا سبب اختلاف ردود أفعال المسلمين تجاه حملة الرسومات المسيئة التي حاولت النيل من شخصه الكريم.
إن العلاقة القلبية تجاه محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي تحدد مقدار علو هذه القيمة أو تدنيها في قلب المسلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] فبين الله سبحانه بأسلوب الشرط أن الصدق الحقيقي في محبته مرتهن باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن العلاقة هنا ليست قولاً باللسان فقط، بل هي عمل يحدده علاقة المسلم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا يضح المعنى الحقيقي للقيمة في قلب المسلم عند وضعها على المحك وتحت الاختبار؛ فقد قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
إذن تعد العلاقة أو النظرة لشيء معين هي المحدد الرئيس لقيمة هذا الشيء عند الفرد أو تدنيها، وهي مرتبطة قطعًا بالأشخاص، وتمسك الشخص بقيمة معينة -بحيث تشكل حياتَه ويرى الوجودَ من خلالها- يضفي على حياته جماليات التمسك بالمبدأ وحسن الصبر عليه، وهذا المعنى لا يعرفه إلا من ذاق وجرب لذةَ التمسك بالمبدأ.
ويمكن القول بأنه كلما زادت القيم التي يتمسك بها الإنسان -كالصدق والإخلاص والوفاء والصبر وغيرها من المعاني الجميلة- ويثبت عليها زادت مكانتُه عند الله عز وجل وفي قلوب عباده، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، ولا شك أن أعلى قيمة يتمسك بها الفرد، وهي التي بعث الله من أجلها النبيين، وأرسل الرسل هي قيمة توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
إن التمسك بالقيمة والثبات عليها لا يمكن تقسيمه بحيث يأخذ الفرد ما وافق هواه ومصلحته ويترك ما خالفها، وهذا المفهوم يشير إليه قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُمْ مِن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
وقد ذم القرآن الكريم في آيات الكثيرة اتباعَ الهوى، إذ إن اتباع الهوى يصد عن اتباع الحق الذي يعد المفتاح الحقيقي والمنفذ البين للتمسك بالقيم، وقد قال تعالى إشارة إلى هذا المعنى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
وبعد هذه المفردات اليسيرة عن القيم والثبات عليها يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف يكون الثبات؟ والجواب:
1- يكون الثبات قولياً: وهذا الثبات يظهر حسب مواقف الحياة المختلفة، إما في إظهار المعتقد أو الدفاع عن حق أو بيان الحقيقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
2- يكون الثبات فعلياً: كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
3- ويكون الثبات قلبيا: كما في قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
4- يجب أن نعلم أن الثبات القلبي أيضاً يعد من الأفعال حتى لو لم يظهر للناس، ولذلك نرى أن من أعظم العبادات مثلاً عبادة التوكل والرجاء والخوف من الله، والتضرع والذلة لله، والإيمان بالغيب، وكلها عبادات قلبية، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
5- يجتمع الثبات القولي والقلبي والفعلي في حياة المسلم في أحايين كثيرة، ومن ذلك قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
إن المسلم المعاصر يواجه تحديات كثيرة؛ من قطار العولمة المنطلق بأدوات الإعلام والاقتصاد والتجارة الدولية والإنترنت والفضائيات، ولا سبيل له في مواجهة هذه التحديات المختلفة إلا بالثبات على قيمه الإسلامية المختلفة والتمسك بها، وهذا بلا شك يحتاج مجهوداً وصبراً كبيراً، ولكن هذا المجهود وهذا الصبر يهون في مقابل الخير والأجر العظيم الذي يدخره الله عز وجل له، خصوصاً إذا علمنا أن المسلم يؤجر بترك المحرمات كما يؤجر بأداء الطاعات.
----------------------------------------------------------